🌿 فلسفة التغذية الواعية: عندما تلتقي النعمة بالصحة بمناسبة اليوم العالمي للغذاء – 16 تشرين الأول/ اكتوبر

🌍 لا يقتصر اليوم العالمي للغذاء -الذي أقرّته منظمة الفاو عام 1979- على مجرد مناسبة توعوية، بل هو وقفة إنسانية أمام واحدة من أعقد معادلات العصر: كيف نوفّر غذاءً صحياً لكل إنسان، في عالم يعاني من مفارقات الجوع والهدر في آنٍ معًا؟ إنه دعوة للتفكير في الغذاء ليس كمجرد وقود للجسد، بل كعلاقة وجودية تربط الإنسان بالطبيعة، وكمسؤولية أخلاقية وسلوك حضاري.
وفي هذا الإطار، يأتي الخطاب القرآني ليضفي على الطعام بعدًا روحانيًا عميقًا: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس: 24). إنها دعوةٌ للتأمل لا في كمّ الطعام، بل في مصدره، وجودته، وتوازنه، وفلسفة الحكمة من ورائه.

🍞 الغذاء في القرآن: منهج حياة متكامل
لم يترك القرآن الكريم مجالًا للتخمين في شأن التغذية، بل رسم منهجًا متكاملاً يجمع بين الحلال، والطيب، والاعتدال:

  • الحلال والطيب: معادلة الصحة الشاملة:
    ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ (البقرة: 168). فـ”الطيب” هنا يتجاوز الجانب الشرعي ليشمل النقاء الغذائي، والبعد عن المواد الضارة، والتناغم مع فطرة الجسد السليمة.
  • الاعتدال: فلسفة الوقاية والاتزان:
    ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31). في هذه الآية تتجلى حكمة إلهية سبقت العلوم الحديثة في الربط الوثيق بين الإسراف في الطعام وأمراض العصر من سمنة وأمراض قلب وسكري.

🥗 الحكمة النبوية: التغذية كعبادة
عمّقت سنة المعصومين (عليهم السلام) هذا المفهوم، فجعلت من تناول الطعام سلوكًا أخلاقيًا وعبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله:

  • فلسفة التقتير في الطعام:
    قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه… فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنَفَسِه.” هذه ليست مجرد نصيحة صحية، بل هي قانون إلهي لإدارة الطاقة الجسدية والروحية.
  • الغذاء وأثره على الروح والقلب:
    حذّر الإمام الصادق (عليه السلام): “اجتنبوا كثرة الأكل، فإنها مفسدة للبدن ومورثة للقسوة.” فهنا يظهر الربط العجيب بين التخمة وقسوة القلب، وكأن الطعام الزائد يثقل الروح كما يثقل الجسد.
  • الصحة: النعمة المستترة:
    وقال (عليه السلام): “الصحة نعمة خفية، إذا وجدت نُسيت، وإذا فُقدت ذُكرت.” ما أعمق هذه الكلمات التي تذكرنا بأن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.

🥛 نحو نظام غذائي متوازن: مبادئ أساسية

  1. التنوع الحيوي: ليس التنوع لمجرد التنوع، بل لضمان حصول الجسم على طيف واسع من المغذيات الدقيقة التي تتفاعل معًا لتوليد الطاقة والصحة.
  2. الاعتدال النوعي والكمي: فهم احتياجات الجسد الحقيقية بعيدًا عن نزوات الشهوة والعادات الاجتماعية الخاطئة.
  3. الطبيعية والعودة إلى الأصول: تقليل الاعتماد على الأغذية المصنعة والمحملة بالمواد الحافظة، والعودة إلى ما هو طازج وبسيط.
  4. ترطيب الجسد: الماء سرّ الحياة: لا يقتصر شرب الماء على إرواء العطش، بل هو أساس كل عملية حيوية في الجسم.
  5. انتظام المواعيد: احترام الإيقاع الحيوي: تناول الوجبات في أوقات منتظمة، مع تجنب إرهاق الجهاز الهضمي بوجبات ليلية ثقيلة.
  6. الحركة: شريك التغذية: لا تكتمل دائرة الصحة دون نشاط بديني يحول الغذاء إلى طاقة حيوية، لا إلى دهون متراكمة.

🍃 الغذاء والصحة النفسية: اتصال لا انفصام فيه
أثبتت الدراسات الحديثة وجود محور دماغي-معوي، حيث تؤثر صحة الأمعاء -من خلال الغذاء- مباشرة على المزاج والوظائف المعرفية ومقاومة التوتر. وهذا ما أشارت إليه الحكمة القديمة بقول الإمام علي (عليه السلام): “إنّ للقلب إقبالًا وإدبارًا…”، فكما يحتاج القلب الروحي إلى توازن، يحتاج القلب العضوي والجهاز العصبي إلى غذاء متوازن ليعملا بانسيابية وصفاء.

🌾 رسالة مستشفى الإمام الحجة (عجّل الله فرجه): من التغذية إلى التعمير
“نرعى الإنسان… لنحفظ الإيمان.”
في مستشفى الإمام الحجة (عج)، نؤمن بأن الغذاء الصحي هو أول خطوط الدفاع عن كرامة الإنسان وصحته. لذلك، وبمناسبة اليوم العالمي للغذاء، نُجدّد التزامنا ليس فقط بعلاج الأمراض، بل – وهو الأهم – بمنع حدوثها من خلال نشر ثقافة التغذية المتوازنة والعادات الصحية المستدامة.
ونعتبر ذلك مسؤولية دينية وإنسانية، نابعة من إيماننا بأن العناية بالجسد هي شكل من أشكال شكر نعمة الله، وهي كذلك الأساس لبناء مجتمعٍ صحيٍّ منتجٍ مفعمٍ بالإيمان

🕊️ خاتمة: الغذاء.. شكرٌ بالنعمة
الغذاء الصحي ليس خيارًا ثانويًا، بل هو استجابة لأمر الله تعالى: ﴿كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ (البقرة: 172). والشكر هنا ليس باللسان فقط، بل بالعمل: بحسن الاختيار، بالاعتدال، وباستخدام هذه النعمة في ما يرضي ولا يضر.

فلنكن جميعًا – أفرادًا ومؤسسات – سفراء لهذه الثقافة.

لنعمل معًا نحو غذاء واعٍ.. يبني أجسادًا سليمة، ونفوسًا مطمئنة، ومجتمعًا معافى.

تمنياتنا بالصحة والسلامة للجميع

الاخبار الجديدة
الإشتراك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments